-
مفاتيح دمشق... من البيت الأبيض إلى باب الهوى: كيف صارت أنقرة "البوابة"؟

خرج ترامب من لقائه مع أردوغان في 25 أيلول/سبتمبر 2025 وهو يلمّح إلى حقيقةٍ لم تعد سرّاً أن من أراد مخاطبة دمشق الجديدة فليس أمامه إلا أن يمرّ عبر أنقرة. لم تكن الجملة مجاملة سياسية، بل اعترافاً بميزان قوةٍ تشكّل لبنةً فوق لبنة على امتداد عقد ونصف.
لكنّ هذا الاعتراف لا يصف "نفوذاً عاماً" وحسب، بل إنّه يشير إلى علاقةٍ محدّدة بشخصٍ محدّد وهو أحمد الشرع. فالرجل الذي خرج من عباءة الجولاني إلى بدلة "الرئيس" لم يصعد بلا مظلة، لقد صاغته أنقرة على مهلٍ، حصّنته حين وجب، وكبَحته حين لزم، وربطت بقاءه بسلسلة مفاتيحٍ تمسكها بيدها من الأمن، إلى الحدود، إلى الممراتّ، والعملة، وصولا إلى الاعتراف العملي.
من هنا تبدأ الحكاية فقبل تلك الابتسامة العريضة في واشنطن بأسابيع وأشهر، كانت دمشق الجديدة تتنفّس عبر رئةٍ واحدة اسمها الشمال الغربي. هناك تنتشر نقاط الجيش التركي، وهناك تحوم المسيّرات التي تُحدّد سقف الاشتباك، وهناك تُقاس حياة الناس بالليرة التركية، وتُضاء البيوت بكهرباء تأتي من شركاتٍ تتبع لولايات الجنوب التركي، وتُفتح مستودعات الدواء والقمح اعتماداً على معابر تُغلق وتُفتح بإشارةٍ من أنقرة.
في هذا المشهد، لم يكن الشرع "خياراً حرّاً" بقدر ما كان "خياراً ممكناً" في معادلةٍ تتحكّم أنقرة بمفاصلها فهي تضمن إدلب من الانهيار لمنع الفوضى على حدودها، وتمنح سلطة الأمر الواقع هامش إدارةٍ يومي، ثم تنقلها خطوةً خطوةً من جلباب "الإمارة" إلى كرافيتة "الدولة".
وحين احتاجت الرواية الدولية إلى وجهٍ يتحدّث باسم الأمر الواقع، قدّمت له الديكور عبر مقابلات وصور ووعود بإصلاحاتٍ "منضبطة"، وكلّها محكومة بقيدٍ واضح مفاده أن "لا قرار يتجاوز الخط الأحمر التركي".
إن عدنا إلى 2020 سنجد البذرة الأولى لهذا الترتيب فوقف إطلاق النار في إدلب لم يكن معلّقاً في الهواء، بل مُعلّقاً على جناح طائرةٍ تركية. هناك بالضبط تأسّست علاقة القوة بين أنقرة والسلطة الصاعدة، فمن دون الغطاء التركي ما كان لسلطة الشمال أن تبقى، ومن دونها ما كان بمقدورها أن تفاوض، ولا أن تفرض نفسها على خرائط التماس.
ومع تعاقب عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، تغيّر شكل الشمال ومضمونه معاً عبر حدود تتحوّل إلى إدارة، وإدارة تتحوّل إلى وصاية، ووصايةٌ تُنبت بنيات حكمٍ محلية تتنفّس من رئة الاقتصاد التركي وتتكلم بلغته النقدية وتتعامل مع مؤسساته الخدمية.
في هذه المساحة، حددت الشرعية العملية للشرع من خلال سلطةٌ يسمح لها أن “تعمل” لكن مفاتيح استمرارها خارج حدودها، وسلطةٌ “تُسمَع” لأن مكبّر صوتها في أنقرة.
هكذا تبدو علاقة أنقرة بدمشق اليوم فهي ليست شراكة أنداد، بل يد تمسك بالمقود وأخرى تُترك على الدركسيون لتمنح المشهد مظهر القيادة. فالقرار الأمني الأعلى في الشمال لا يمرّ من مكتب الرئيس بل من غرف عملياتٍ تحدّدها تركيا، والمعابر التي تُطعم المدن وتأمن الدواء تحدّدها جداول تنسيقٍ تركية، والعملة التي تُسعّر بها الرواتب والخبز تابعة لاقتصادٍ لا تملكه دمشق.
وحتى حين انفتحت بوابة السياسة الدولية بعد قرار واشنطن بتخفيف برنامج العقوبات الاميركي، جاء المفتاح من الجهة ذاتها من خلال استثناءاتٌ تُصاغ، ومساراتٌ تُمرَّر، وتطميناتٌ تُرسل للجميع عبر قناةٍ اسمها أنقرة.
عند هذه النقطة، يصبح السؤال عن "هيمنة تركيا على الشرع" سؤالاً بلاغياً مفاده: ماذا يبقى من السيادة حين تمسك طرفاً بالسماء وطرفاً بالأرض وطرفاً بما بينهما؟
وعند هذه العتبة تحديداً يصبح توصيف "الهيمنة التركية على دمشق" توصيفاً لعلاقةٍ شخصية أيضاً فأنقرة لا تملك نفوذاً على الدولة بوصفها مؤسّساتٍ فحسب، بل تمسك كذلك بمفاصل الرجل الذي يُفترض أنه يعبّر عنها.
فإذا تردّد الشرع بين قرارين، فإنّ "كلفة الخطأ" لا تُقاس بما سيخسره في الداخل بقدر ما تُقاس بما قد يُسحب من فوقه من غطاء. هذه ليست تهديدات معلَنة، لكنها بديهيات معادلةٍ تُحكم بالوقائع لا بالنوايا. لهذا يحرص الرجل على السير داخل الممرّ الذي رُسم له .. يقدّم التزاماتٍ أمنية على الحدود، يتجنّب قراراتٍ اقتصادية "سيادية" لا توافق عليها أنقرة، ويترك الباب موارباً أمام قنواتٍ دبلوماسية تمرّ عبرها لا من فوقها.
هنا فقط تترجم عبارات ترامب حين يثني على "دور أردوغان" في إسقاط الأسد وتمهيد طريق العقوبات، فهو لا يصف الماضي بقدر ما يحدّد طريقة العمل للمستقبل. فمن أراد أن يتفاهم مع دمشق، فليجرّب الطريق الأقصر... اتصل بأنقرة. ومن أراد أن يضغط على دمشق، فليفعل الشيء نفسه ... اتصل بأنقرة. وبين الاتصالين يقف أحمد الشرع، رئيساً يتنفّس عبر رئةٍ ليست في جسده، وممسكاً بمقاليد لا تُصنع قبضتها في مكتبه.
هذا هو معنى الهيمنة التركية اليوم وهي ليست قراراً مكتوباً في بيان إتفاق، بل شبكة أسبابٍ تجعل القرار السوري "بالأمن والاقتصاد والاعتراف" يتدحرج في النهاية إلى يدٍ واحدة.
السؤال الآن ليس عمّا إذا كانت أنقرة تهيمن، بل عن كيف يمكن لسوريا أن تستعيد المساحة التي تتيح لرئيسها أن يخطئ ويصيب بقراره هو، لا بقرار من يزوّده بالهواء.
جوابنا على هذا السؤال يبدأ من تعريف السيادة بوصفها قدرةَ المجتمع على ضبط الدولة، لا قدرة الدولة على إخضاع المجتمع.
ومن خلال قدرتنا على بناء اقتصادٍ يتنفّس من أكثر من رئة، وإدارة سياسةٍ خارجيةٍ متعددة المداخل لا متعددة الأوصياء، ومن عدالةٍ انتقاليةٍ تفحص الإرث وتُقيم المسؤوليات، عندها لا تعود الزعامةُ "مكافأةً" على الولاء للخارج، بل تفويضاً يعطيه الشعب ويكون قابلاً للمساءلة منه فقط.
شادي عادل الخش
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!